الفتاة (أ)
لا ذكرى لدي ..
لا ذكرى لدي عن امتعاضة هذا النسيان حتى!
لا ذكرى لنشوةِ طيرٍ هارب، فرّ من قصاص جناحيه فاستراح ..
"ولربما كنت الجاني هنا .. فأذنبت"
لست أذكر!
لا ذكري لدي عن انحناءٍ من فوق الآنية الفضية لصبّ الشاي، كما تفعل الآنسات اللطيفات المجاملات ..
"ولربما كان لي تأثير انحناءة واحدة .. فتزوجت!"
لكن هل استطعت فعل ذلك حقا؟
آه لا أريد تذكر هذا الأمر تحديدا!
لا أذكر أي قفزة شقية من فوق سور المدرسة لفتاة هاربة من حصة العلوم الحياتية .. أو العلوم التأديبية!
"هل كان المكان مدرسة أم ميتما أم بيتا؟"
حسنا إن فعلت.. لكني لست أذكر!
الأسماء والصفات ومعانيها والألسنة الكثيرة والأسئلة المتزاحمة في صغري، لم أعد أذكر ما كنت عنه .. تسآئلت!
لا هوية لي في ألعاب البنات ولا في ألعاب الصبيان .. ولا أدري إن جرّبت يوما انهاء حياة نملة، أو إطعام قطة أو جذب ذيلها .. أو شتيمة أحدهم .. أو تملقه أو حتى سرقة الحلوى منه!
(الاحتمالات كثيرة، والطفولة اسطوانة ذكرى، أما العالم فهو المكان الرديء للتسجيل فيه!)
**
الفتاة (ب)
أذكر صوت ضحكتي الأخيرة في عيد ميلادي الثالث عشر، كنت قد حفظت رنينها داخل علبة الألوان الشمعية.. حتى هذا اليوم ألون بالقلم الرصاص.
أذكر أنني انتحلت شخصيتي ذات مرة مشروطة، على أن أكون الآمرة على نفسي و أن تكون نفسي آمرة علي . . كنت على دراية بأنني أشترط دوما على نفسي كي تلتزم إحدانا بالشرط، لكن لم يحدث أن أسعفني هذا بالفوز بذكاء في لعبة الشطرنج وكنت اعود دوما لحكمة الأنا الأنثوية لدي وأتجنب تلك السليطة!
كان كل مافعلته أن اخترت توحيد اللونين:
"انا اريد الأبيض والأسود معا"
من الآن فصاعدا تغيرت قوانين اللعبة
أريد ان يتحد الجيشان مرة واحدة، مرة واحدة فقط ونهزم حدود هذه الطاولة المطلية، وتقسيماتها غير العادلة..
كنت أدرك أنني حالما أصدر أوامري وينقلب الجيشان للضباب الكثيف؛ فلا مفر من حساب الملك والملكة معا!
كل يحشر ويجازى بحسب أفعاله:
80 طعنة في ظهر الملك كي يجازى على خيانته
و80 طعنة تراه الملكة أمام صدرها يجثو.. كي ترى الحقيقة اللعينة!
لكنني.. كنت شخصاً ملولاً!
أذكر أنني ما إن أنتهى من لعبة حتى أنتقل للعبة أخرى ليكتمل المشهد كما شئت؛..
تتحول لعبة الأشياء إلى حواسٍ مهيئة للانقضاض على نفسي اللوامة "ما الذي فعلته بهم..؟"، كنت اشعر بعيوني ملتهبة كحرارة صيف صحراوي يجف فيه الريق ويغشى على البصر والسمع فيه ليبدأ المشهد بيني وبيني: ..
غبار معركة محتدمة بين يدي اليمنى واليسرى، تلك تضيّق الخناق على الزند والأخرى تحاول تهشيم الأصابع!
جازفت بكل أعصابي على أن أحقق نصراً داخلياً يطرق باب صدري بكلتا يداي المتحاربتان: أن توقفي الآن وإلا اقتلعنا قلبك!
لكن .. ما كان مني إلا أن أنتقل إلى لعبة جديدة، تخفف أزمة الضحية والجاني، وتؤسس لعهد المتفرجين على حقيقة الأنا :
لجميع العاهرين منهم والعاهرات ..
"شكرا للتصفيق|
كان الأمر مؤثراً جداً فلم يكن من أحد معي ولا كنت أشاهد أحداً ولا يشاهدني! لكن مركزيتي في المكان والزمان أخذت أنفاسهم و خلقت مشهدا معالجا للعبة ثالثة على التوالي : "شد الحبل!"
كانت الفكرة هي شد الحبل لأقصى ما يمكن .. على شقيقة رأسي!
المضحك في الأمر أن الحبل كان مصنوعاً من شعري وكنت أجد في الأمر لذة في توظيف الشعر لجمهورٍ نهمٍ أتخم بالبلادة .. وحقاً كان التوظيف موفقا
فالجميع صفق لي قبل أن تصبح رأسي أرضا جرداء!
كنت أترك اللعب حينا لأتنزه في عقلي أو في غيبوبة أفكاري التي ظلت تغويني للعب عند كل منعطف وكنت أرفض وأكمل مسيري بصعوبة، إلى أن صادفني انحدار حاد لصوت أناي السفلى: لعبة جديدة "التجديف"!
عجوز مجنون يهرول مسرعاً إلى الشاطئ .. يبتلع أنفاسه والكلمات، صوته مزعج والرائحة كريهة .. أين أنا!
آه .. اللعنة "إنني عالقة في حلقه!"
اكتشفت حينها أنني وصلت لأحد أفواه المتفرجين، اللعب كان ممتعاً .. حتى تلك اللحظة، فعلاً لم أدري ما أفعل كيف سأجدف في حلق هذا العاهر الذي ما فتئ يشرب الكحول طوال العرض، كنت أراقبه ويدي تخنق الأخرى وأنا أصلي كي تتمدد إحدى يداي لتصل إلى القنينة المخبأة داخل معطفه "الغبي لم يفطن وهو يتظاهر بالنعاس ليشرب.. أنني رأيته" .. عجوز بغيض!
"حسنا .. الأمر يدعو إلى إبطال الحواس الآن، صوت معدته المهترئة، رائحته الكمونية الكريهة، وذاته القذرة .. لن تؤثر علي" حدثت نفسي بذلك"، لكن .. ومع أن المكان كان معتما جدا هناك إلا أنني وجدت بيداي عصا للتجديف
وتسائلت: "إلى أين سأجدف .. إلى معدته! لالالا المكان مقرف هناك .. وسينتهي بي المطاف في أسوأ مؤخرة لرجل عجوز!
آآه .. لم تعد هذه اللعبه ممتعة!! ليست كذلك الآن!"
حينها..
قررت في "عتمة المكان الباهرة" أن أترك القارب ليتكسر في معدته وكنت أتمنى بدناءة شديدة أن ينفجر من شدة الألم وبدأت بالتسلق للأعلى بوتد العصا نحو عقله أردت اقتحام اللعبة السفلية وسميتها "السقوط للأعلى" كان العاهر يرغمني على الوقوع في كل مرة يتنحنح فيها بعد ضحكة منفعلة، حاولت مرارا حتى استطعت الاقتراب قليلا من مكان محدب كالهضبة، سمعت صوتا يشبه صدى الأصداف وشممت رائحة تشبه مصانع الدهان والألوان.. اقتربت أكثر وأنا أحاول توضيح رؤيتي .. ظننتني وصلت لآلة عقله لكن ما بدا لي أن هناك إنارة خافتة تومض .. كالبرق وتختفي من جديد ..
يتبع »»